كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الشهاب: ولا يخفى أن هذا- وإن اشتهر- خلاف الظاهر؛ فإما أن يكون ضمير {مِنْهُمَا} لبحري فارس والروم، أو يقال: معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة. انتهى. والخطب سهل.
ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس، لتحلّيهم بهما، كما تشير له: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12]، قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [24- 25].
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ} يعني السفن، جمع جارية {الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} قرئ بكسر الشين، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر. والأعلام جمع علَم، وهو الجبل الطويل. ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، قال تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري. قال القاضيّ: أي: من خلق موادها، والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [26- 28].
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي: مَن على ظهر الأرض هالك.
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} أي: ذاته الكريمة {ذُو الْجَلَالِ} أي: العظمة والعلوّ والكبرياء {وَالْإِكْرَامِ} أي: التفضل العام، وهذه الآية كآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
ولما كان فناء الخلق سببًا لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل، وينقلب الأول بالثواب، ويبوء الآخر بالعقاب، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، قال سبحانه: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} من الفوائد، بقوله: فيه فوائد:
منها: الحث على العبادة، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة.
ومنها: المنع من الوثوق بما يكون للمرء، فلا يقول إذا كان في نعمة: إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله، معتمدًا على ماله وملكه.
ومنها: الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمدًا على أن الأمر ذاهب، والضرر زائل.
ومنها: ترك اتخاذ الغير معبودًا، والزجر عن الاغترار بالقرب من المملوك، وترك التقرب إلى الله تعالى؛ فإن أمرهم إلى الزوال قريب.
ومنها: حسن التوحيد، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعًا، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن ٍ فباي الاء ربكما تكذبان} [29- 30].
{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: يدعونه ويرغبون إليه، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي، وغناه المطلق.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي: كل وقت يحدث أمورًا، ويجدِّد أحوالًا. قال مجاهد: يعطي سائلًا، ويفك عانيًا، ويجيب داعيًا، ويشفي سقيمًا.
وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية. فقيل: يا رسول الله! وما ذاك الشأن؟ قال: «يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين».
وقال القاشانيّ: المراد يسأله كلُّ شيء، فغاب العقلاء، وأتى بلفظ: {مَن} أي: كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائمًا {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد، ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل، ولوث العقائد الفاسدة، والخبائث، للشرور والمكاره، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال: يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. انتهى.
وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره- كابن كثير والقاضي- رآها خاصة بمن يعقل، عامة بلسان الحال أو المقال. والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم، وهو ما ذكرناه أولًا {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آنًا فآنًا.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [31- 32].
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} قال القرطبيّ: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغًا وفروغًا، وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي: بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذًا أتفرغ لك، أي: أقصدك.
وقال الزجّاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشيء. والإقبال عليه، كما هنا، وهو تهديد ووعيد، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به. وتقول: سأفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي. فهو على سبيل التمثيل، شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة، من الأخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن، بحال مَن إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر، إذا فرغ من ذلك الشغل، شرع في آخر. وجازت الاستعارة التصريحية أيضًا. وقد ألم به صاحب (المفتاح) حيث قال: الفراغ الخلاص عن المهام؛ والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقع مستعارًا للأخذ في الجزاء وحده.
لطيفة:
ترسم {أَيُّهَا} بغير ألف، وأما في النطق فقرأ أبو عمرو الكسائي: {أَيُّهَا} بالألف في الوقف، ووقف الباقون على الرسم {أَيُّهَا} بتسكين الهاء، وفي الوصل قرأ ابن عامر {أيهُ} برفع الهاء، والباقون بنصبها.
و{الثَّقَلَانِ} تثنية ثَقَل بفتحتين، فَعَل بمعنى مفعل، لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى مفعول، لأنهما أُثقلا بالتكاليف. وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب.
والخطاب في {لَكُمْ} قيل للمجرمين، لكن يأباه قوله: {أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} نعم! المقصود بالتهديد هم، ولا مانع من تهديد الجميع بقوله، أفاده الشهاب، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضًا، لأن المعنى: سنفرغ لحسابكم، فنثيب أهل الطاعة، ونعاقب العصاة، وهو جليّ؛ ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: من ثوابه أهل الطاعة، وعقابه أهل معصيته.
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [33- 34].
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم، أي: بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم {فَانفُذُوا} أي: فجوزوا واخرجوا {لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي: بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك ونحوه: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء} [العنكبوت: 22]، ويقال: معنى ال: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله تعالى. والأول أظهر، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مُجاز للعباد، عقبه بقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} إلخ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه، إذا أراده.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال ابن جرير: أي: من التسوية بين جميعكم، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم.
وقال القاضي: أي: من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة.
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [35- 36].
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} أي: من لهب {مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} أي: صُفر مذاب يصبّ على رؤوسهم {فَلَا تَنتَصِرَانِ} أي: تمتنعان وتنقذان منه. يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، وعبارته:
هذا في مقام الحشر، والملائكة محدقة بالخلائق، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان، أي: بأمر الله {يَقول الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 10- 12]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27]، ولهذا قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. انتهى.
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك الإمامُ ابن القيم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه (طريق الهجرتين) في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا} ما مثاله:
وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربًا ولا منفذًا، كما قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32- 33]، قال مجاهد: فارّين غير معجزين. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندُّوا هربًا، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفًا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17]، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن: 33] الآية. وهذا القول أظهر- والله أعلم- فإذا بدت الخلائق ولّوا مدبرين، يقال لهم:
{إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم، فافعلوا. وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} الآية، وهذا في الآخرة، وبعدها {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء} [الرحمن: 37] الآية، وهذا في الآخرة وأيضًا فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى به بصيغة العموم، وهي قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} فلابد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر. وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل: إن استطعتما، لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [الأنعام: 13]، وقال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا}، ولم يقل: يرسل عليكم، لإرادة الصنفين، أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معًا. وهذا، وإن كان مرادًا بقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33]، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحسَّنَ الخطاب بالتثنية في قوله: {عَلَيْكُمَا} أمر آخر، وهو موافقة رءوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما- والله أعلم- انتهى كلام ابن القيم.
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده، لأنه ليس من نظائره. فالوجه ما ذكرناه.
{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال القاضي: فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار، من عداد الآلاء.